نساء المتعة

 

الضحية كي ريم بي تنظر إلى نصب نساء المتعة

    يحكى أن حواء كانت ومازالت الشطر المظلم للنفس الإنسانية، المُلام على رعونة شطرها المبتهج. يُخيّل لي أن الأرض في أول الخلق استقرت فاستقر ميزانها وعلى كفتيه ذكر وأنثى، ثم دارت فانقلب ميزان العدل على عقبيه, فسقطت منه حواء وبناتها من بعدها. السجلات التاريخية الضخمة تخبرنا بشيء واحد عن النساء, أنه لا يمكن اختصار معانتهن على مر العصور في بضعة أسطر أو مجلدات. لم يكن إقصاء النساء من الحياة الاجتماعية والسياسية والعلمية حماية لهن من الزج بهن في الحروب واستغلالهن في الأزمات، ليكنّ وقودًا يحترق في المجالات نفسها! هذا ما يفعله ميزان مقلوب.

     حين نذكر مصطلح "جرائم حرب" لابد أن نعرف أن للنساء نصيب الأسد من تلك التسمية. فالجيوش تتقدم ومن خلفها نساء منكل بهن بشتى الطرق. وحين كانت غالبية المعمورة جحيمًا للنساء لم يكن الشرق الآسيوي جنتها أيضًا. في أثناء الحرب العالمية الثانية قدمت كوريا أكثر من مئتي ألف من نسائها قربانًا لمتعة جنود الجيش الياباني المحتل. وليس بجديد على النساء أن يطالبن ببذل التضحيات من أجل "متعة" الجنس الآخر. احتلت اليابان شبه الجزيرة الكورية منذ عام 1910 ولم تتهاون في فرض سيطرتها على الشعب الكوري وأن تسقيه مرارة الخضوع لعدو أجنبي غاشم يحمل البارود في يده ومن وراءه البحر. فسلبتهم أول ما سلبتهم حريتهم الفكرية وهويتهم وسلطة قرارهم، ثم الأملاك والأراضي... والنساء. جندت اليابان النساء الكوريات لا ليحملن السلاح ويقفن على جبهة معاركها في الحرب العالمية الثانية؛ بل ليمتعن جنودها في أوقات الراحة، فيعودون إلى الميدان بانتصاراتهم الخسيسة في غرف الاستعباد, أكثر عزمًا. أكثر وحشيةً.

     أنشأت اليابان في عام 1932 أول مركزًا للمتعة أو بيتًا للدعارة العسكرية أو على الأصح سجنًا للاغتصاب والتعذيب، وملأته بالنساء الآسيويات من البلدان التي كانت تحتلها وعلى رأسها شبه الجزيرة الكورية. حيث تشير الإحصائيات إلى أن أكثر هؤلاء النساء كن كوريات تتراوح أعمارهن بين المراهقة المبكرة وأواخر العشرينات. ورغم أن اليابان قد سبق وزعمت أن "نساء المتعة" كن مومسات، إلا أن الأدلة لم تنصفها, والمبرر لا يشفع. اضطرت اليابان أن تعترف بخطفها لهؤلاء النساء وإجبارهن على ممارسة البغاء والترفيه عن جنودها، فضلًا عما يشهدنه من معاملة غير آدمية وإهمال لحالتهن الصحية  المتردية نتيجة نقص الغذاء والاغتصاب الوحشي والإجهاض القسري وغيرها من الإنتهاكات والجرائم في حق الإنسانية.

     حملت اليابان نساء المتعة على متن سفنها الحربية من ميناء إلى ميناء، تواصل استعبادهن جنسيًا وتصُّف جنودها واحدًا تلو الآخر أمام مراكز المتعة التي تبنيها في كل أرض تطأها البيادة العسكرية، يدخل على المرأة عشرات الجنود في يوم واحد ولا تملك حق الرفض أمام وسائل التعذيب التي كان أقلها الطعن بالسكين وقطع الجلد. الكثيرات منهن فضلن إنهاء حياتهن على البقاء في خضم أيام قاسية ومظلمة، ومنهن من لم يكن لديها الخيار فاختارها الموت أولًا، ومنهن من تحملن مشقة العيش حتى هُزمت اليابان في الحرب العالمية الثانية وخلفتهن وراءها في بلدان غريبة بلا مأوى وبلا قوة. بقيت من بقيت وعادت من عادت إلى الوطن الجريح الذي استرد هو الآخر حريته للتو، فوجدت نفسها عارًا يلحق بعائلتها بل وبجيرانها والحي بأكمله. اضطرت النساء العائدات الى إخفاء هوياتهن حتى لا يخسرن كل شيء، فقد يطردها الجيران من منزلها خوفًا من انخفاض أسعار البيوت في الحي بسبب سمعتها المشوهة.

     اليوم وقد طوت كوريا تلك الصفحات من تاريخها وتغير الوعي الجمعي ليدعم هؤلاء النساء، أصبحت نساء المتعة رمزا للنضال وشاهدًا يقف كالغصة في حلق اليابان. لم تعد ضحايا الاسترقاق الجنسي وصمة عار صامتة تحمل الذكرى الأليمة في صدرها وحسب؛ بل هن اليوم، وقد تجاوزت نسوة منهن العقد التاسع، ناشطات حقوقيات ومساهمات في أعمال خيرية ومتحدثات تعتلين المنصات على رؤوس الأشهاد ليسكبن الملح على الجراح برواياتهن. ورغم الإتفاق المبرم بين كوريا الجنوبية واليابان عام 2015 بشأن قضية نساء المتعة ودفع اليابان تعويضات تقدر بتسعة ملايين دولار في عهد الرئيسة الكورية المعزولة بارك كن هي لتغلق تلك القضية للأبد، إلا أن الكوريين مازالوا يطالبون باعتذار رسمي لا تغني عنه أموال اليابان, ومزيد من التعديلات على الإتفاق الذي كان قاصرًا من وجهة نظرهم. تصر اليابان على عدم المساس بالإتفاق بينما تغضبها كوريا بإقامة نصب تذكارية لنساء المتعة أمام سفاراتها في أمريكا وألمانيا وأستراليا وكوريا نفسها. وإن دفعت اليابان تسعة ملايين أخرى ستظل قضية نساء المتعة ثقب أسود في فضاء كوكبها المتقدم.

تعليقات