في المقهى

 "لابد أنه مقهى جيد حتى يأتي إليه الأجانب أيضًا" 

"ما هذا؟! انظروا! إنها تصور! لابد أنها مدونة" "أود أيضًا أن أصبح مشهورة" 

اليوم السبت، استيقظت في حيرة، هل أسافر ١٦٠ كم لأقابل أصدقاء من مصر، أم أتحدث إلى صديقي المعزول هنا هو الآخر، وقد مضى وقت طويل منذ آخر مرة التقينا لنواسي أنفسنا بشأن قراراتنا الخاطئة، ونبحث عن تسلية في مدينتنا الهادئة. بعد ترتيب سريري وكنس غبار الأرض مع تعب الأسبوع، لقد كان حقًا أسبوعًا شاقًا، قررت أن أذهب إلى المقهى لتناول الفطور وحدي. Un croissant et un café crème. بينما كنت مشغولة بتصوير فطوري الأنيق كخصر فتاة فرنسية، سمعت همهمات البنات الكوريات من الطاولة المجاورة عن مظهري الأجنبي تمامًا. عجبًا، في بلدي يقولون جاءت الكورية ذهبت الكورية، لا يعرفون كم أنا أجنبية هنا وكم أن عيوني واسعة وأنفي مرفوع. هل أتجاهل ثقافة الكوريين الخجولة التي انطبعت في روحي وألتفت لتحيتهم؟ حينها لن ينتهي المديح عن كوني أجيد الكورية بطلاقة شديدة رغم قولي مرحبًا فقط. أم أتظاهر لآخر لحظة أنني أجنبية كما يجب ولا أفهم لغتهن. سأدعهن يستمتعن بالإثارة ولن أتفوه بكلمة. 

أشتاق لمفهوم الوطن، أنا لا أعرفه حقًا، فقط يبدو أمرًا رائعًا أن تمتلك بيتًا. تغريني فكرة الامتلاك، وأن أتعلق بالأشياء والأشخاص، لكني منذ نعومة أظافري، تربيني الحياة على ألا أتعلق بأي شيء. افترقت عن أبي وغادرت مسقط رأسي في أقصى شرق الجزيرة العربية عندما كان عمري شهرين، لأذهب إلى مكان يقولون أنه وطني. لم ألبث أن أتعرف على نفسي هناك، جسم قصير نحيل، سمراء من الجري تحت الشمس كل يوم، وما أدراك وما شمس صعيد مصر، متفوقة في العربي والحساب وقائدة زميلاتها في المدرسة، ومن بعدها تنضم إلى جاراتها اللاتي يكبرنها بسنة إلى ثلاث، لتثبت لهن أنها تفهم كل أنواع اللعب وتجيد الحوار عن أي موضوع كبير. حينها كان لدينا بيتًا يزوره أبي مرتين بالسنة، ليمنعني قليلًا من المبالغة في اللعب ويأخذني في رحلات شيقة بسيارته الفاخرة، يغمسني تارة في البحر وتارة يرفعني فوق كتفه لنجوب اليابسة، ونشتري الكتب والملابس الجديدة، وكنت أحنق عليه عندما يحاول التدخل في تفضيلاتي من المأكولات غير المفيدة للأطفال. كان لدينا بيتًا. وفجأة تخرجت أختي من الثانوية العامة وأتى الأقارب يباركون ويضعون الأموال في كفها النحيل من مسكة القلم، وأذكر أنني قد عزمت أن أجتهد عندما أكبر لأحصد المال مثلها، وأشتري عروسة -فلة- التي تملأ اعلاناتها قناة سبيس تون، حتى قالوا لي أننا ذاهبون لمسقط رأسي ورأس فلة في غضون أيام. ذهبت لأودع جاراتي واتصلت بصديقتي المفضلة من المدرسة لأخبرها أنني لن أحضر أول يوم في العام الدراسي لنختار معًا مقاعدنا في الصفوف الأولى. لم أستطع التحدث إليها، بلغت والدتها الرسالة، وتركتها تتحدث مع أمي عن ملابسات سفرنا المفاجئ. بعد أيام وجدتني مع أبي في سيارته الفاخرة نجوب طرق جديدة أوسع، ونختار ملابس مدرسية أقبح، لا أحب هذا الثوب الرمادي الطويل، ولا تلك العباءة السوداء. وأين فلة؟ لماذا تتحدث الناس بلهجة مختلفة عن فلة؟ ولماذا لا أتحدث مثلهم؟ قال أبي أنني مصرية ولابد أن أتحدث بلهجتي فقط. أريد العودة لأختار مقعدي في الصف الأول بجنب صديقتي.  

بعد ثمان سنوات من العيش كدخيلة في مسقط رأسي، كنت قد كونت صداقات قوية، وحافظت على لهجتي وعلى غرابتي، وظننت أنني امتلكت بيتًا. لكن كان عليّ المغادرة لألتحق بالجامعة في القاهرة. هل نحن عائدون الآن إلى البيت، أم أنني أغادر البيت؟ ليخبرني أحدهم لأجل الله! وجدتني هذه المرة في مساحة جديدة وكل شيء غير مألوف. لم يسبق لي العيش في القاهرة. ومعي بنات قد أصبحن عائلتي الثانية، نقتسم غرف شقة، وخبز، ودواء، وحكايات قلوب مكسورة. وظننت أنني امتلكت بيتًا. لكننا كلما تأخرنا عن موعد إغلاق بوابة الدار، أو جففنا ثيابنا المبللة على الكنبات، أو وقفنا في الشرفة بدون غطاء رأس، تأتي المشرفة لتنهرنا، فتخلى معظمنا عن انتمائه للمكان. جاءت السعودية ذهبت السعودية، هكذا كن يشرن لي. وبالمثل في الجامعة.

ترى ماذا حدث لأجد نفسي هنا في شرق آسيا؟ أعتقد أنه من السهل على من يعرفونني رواية تلك القصة أكثر مني. فأنا الآن مهما فكرت مازلت لا أعرف من أين أبدأ. أتذكر فقط أنه عندما كان عمري إحدى عشرة، نظرت في عين والدي وقلت له أنني سأذهب إلى كوريا، وابتسم وقال: حسنًا، تناولي طعامك. للتو انتهيت من تناول الكرواسون في مقهى أنيق في حي داى هنغ بمدينة دايجيون. وأفكر بالعودة إلى البيت. لحظة، هل لدينا بيت؟ 


تعليقات